كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



(وَمِنْهَا) انْقِطَاعُ سِلْسِلَةِ أَهْلِ الْفَهْمِ، وَالتَّبْيِينِ، وَخَبْطُ النَّاسِ بَعْدَهُمْ فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْهُمْ مِنْ بَيَانٍ، وَتَأْوِيلٍ، وَحَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ مِنْهُ حَتَّى بَعُدُوا عَنِ الْأَصْلِ بُعْدًا شَاسِعًا قَالَ: وَانْظُرْ فِي حَالِ الْمُسْلِمِينَ- الَّذِينَ اتَّبَعُوا سَنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ- وَاعْتَبِرْ بِحَالِ بَعْضِ أَهْلِ الْأَزْهَرِ تَرَى بِعَيْنَيْكَ كَمَا رَأَيْنَا، وَتَسْمَعُ بِأُذُنَيْكَ كَمَا سَمِعْنَا، وَتَفْهَمُ سِرَّ مَا قَصَّهُ اللهُ مِنْ أَنْبَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَيْنَا.
أَقُولُ: وَمِمَّا سَمِعَهُ هُوَ- وَهُوَ الْعَجَبُ الْعُجَابُ- قَوْلُ شَيْخٍ مِنْ أَكْبَرِ الشُّيُوخِ سِنًّا وَشُهْرَةً فِي الْعِلْمِ فِي مَجْلِسِ إِدَارَةِ الْأَزْهَرِ عَلَى مَسْمَعِ الْمَلَإِ مِنَ الْعُلَمَاءِ: مَنْ قَالَ إِنَّنِي أَعْمَلُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ زِنْدِيقٌ يَعْنِي أنه لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ إِلَّا بِكُتُبِ الْفُقَهَاءِ، فَقَالَ لَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: مَنْ قَالَ إِنَّنِي أَعْمَلُ فِي دِينِي بِغَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ الزِّنْدِيقُ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْمَنَارِ فِي زَمَنِهِمَا.
وَاعْلَمْ أنه لَا مَفْسَدَةَ أَضَرُّ عَلَى الدِّينِ وَأَبْعَثُ عَلَى إِضَاعَةِ الْكِتَابِ، وَنَبْذِهِ وَرَاءَ الظَّهْرِ، وَاشْتِرَاءِ ثَمَنٍ قَلِيلٍ بِهِ مِنْ جَعْلِ أَرْزَاقِ الْعُلَمَاءِ وَرُتَبِهِمْ فِي أَيْدِي الأمراءِ وَالْحُكَّامِ، فَيَجِبُ أن يكون عُلَمَاءُ الدِّينِ مُسْتَقِلِّينَ تَمَامَ الِاسْتِقْلَالِ دُونَ الْحُكَّامِ- لَاسِيَّمَا الْمُسْتَبِدِّينَ مِنْهُمْ- وَإِنَّنِي لَا أَعْقِلُ مَعْنًى لِجَعْلِ الرُّتَبِ الْعِلْمِيَّةِ، وَمَعَايِشِ الْعُلَمَاءِ فِي أَيْدِي السَّلَاطِينِ، وَالأمراءِ إِلَّا جَعْلَ هَذِهِ السَّلَاسِلَ الذَّهَبِيَّةَ أَغْلَالًا فِي أَعْنَاقِهِمْ يَقُودُونَهُمْ بِهَا إِلَى حَيْثُ شَاءُوا مِنْ غِشِّ الْعَامَّةِ بِاسْمِ الدِّينِ، وَجَعْلِهَا مُسْتَعْبَدَةً لِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَلَوْ عَقَلَتِ الْعَامَّةُ لَمَا وَثَقَتْ بِقَوْلٍ، وَلَا فَتْوًى مِنْ عَالِمٍ رَسْمِيٍّ مُطَوَّقٍ بِتِلْكَ السَّلَاسِلِ، وَقَدِ انْتَهَى الأمر بِالرُّتَبِ الْعِلْمِيَّةِ فِي الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ أَنْ صَارَتْ تُوَجَّهُ عَلَى الْأَطْفَالِ بَلِ الْجَاهِلِينَ مِنَ الرِّجَالِ حَتَّى قَالَ فِيهَا أَحَدُ عُلَمَاءِ طَرَابُلْسِ الشَّامِ مِنْ قَصِيدَةٍ طَوِيلَةٍ فِي سُوءِ حَالِ الدَّوْلَةِ:
زَمَنٌ رَأَيْتُ بِهِ الْعَجَائِبْ ** وَذُهِلْتُ فِيهِ مِنَ الْغَرَائِبْ

زَمَنٌ بِهِ الْوَهْمُ السَّخِي ** فُ عَلَى عُقُولِ النَّاسِ غَالِبْ

أَفَلَا تَرَاهُمْ جَانَبُوا ** كَسْبَ الْمَعَارِفِ وَالْمَآدِبْ

وَرَضُوا بِأَوْرَاقٍ تُخَطُّ ** خُطُوطُهَا مِثْلُ الْعَقَارِبْ

يَشْهَدْنَ زُورًا أَنَّ مَنْ ** هِيَ بِاسْمِهِ نُورُ الْغَيَاهِبْ

عَلَّامَةُ الْعُلَمَاءِ أَوْ ** بَلَّاغُ دَوْلَتِهِ الْمَآرِب

وَيَكُونُ أَجْهَلَ جَاهِلٍ ** ولِمَا لَهَا بالْغِشِّ نَاهِبْ

أَوْ أنه حَدَثٌ عَلَى ** فَخِذَيْهِ خَرْءُ اللَّيْلِ لَازِبْ

ثُمَّ هَزَأَ النَّاظِمُ بَعْدَ ذَلِكَ بِكَسَاوِي التَّشْرِيفِ الْعِلْمِيَّةِ وَشَبَّهَهَا- وَهِيَ عَلَى الْعُلَمَاءِ- بِالسُّرُوجِ (الْمُزَرْكَشَةِ) عَلَى الدَّوَابِّ وَالسُّيُورِ عَلَى الْقَبَاقِبِ إِلَى أَنْ قَالَ:
ضَحِكَتْ عَلَيْهِمْ دَوْلَةٌ ** هَرِمَتْ وَقَارَبَتِ الْمَعَاطِبْ

عَلَى أنه صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ حَمَلَةِ هَاتِيكَ الْأَوْرَاقِ، وَالْمُتَزَيِّنِينَ بِتِلْكَ الْكَسَاوِي الْمُوَشَّاةِ وَالْمُتَحَلِّينَ بِتِلْكَ الْأَوْسِمَةِ الْبَرَّاقَةِ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ السُّلْطَانِ مُعْطِيهَا بُكْرَةً وَأَصِيلًا، وَيُضَلِّلُونَ مَنْ يَطْلُبُ إِصْلَاحَ حَالِ الدَّوْلَةِ تَضْلِيلًا؟ فَهَلْ يُوثَقُ بِعِلْمِ عَالِمٍ مُقَرَّبٍ مِنَ الْمُسْتَبِدِّينَ أَوْ بِدِينِهِ؟
إِنَّ عُلَمَاءَ السَّلَفِ كَانُوا يَهْرُبُونَ مِنْ قُرْبِ الأمراءِ الْمُسْتَبِدِّينَ أَشَدَّ مِمَّا يَهْرُبُونَ مِنَ الْحَيَّاتِ، وَالْعَقَارِبِ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ أَخْبَارًا، وَآثَارًا كَثِيرَةً: مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ- زَادَ فِي رِوَايَةٍ يَكْذِبُونَ وَيَظْلِمُونَ- فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَى الْحَوْضِ الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ أيضا، وَالْبَيْهَقِيُّ. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أَئِمَّةٌ يَمْلِكُونَ أَرْزَاقَكُمْ يُحَدِّثُونَكُمْ فَيَكْذِبُونَكُمْ، وَيَعْمَلُونَ فَيُسِيئُونَ الْعَمَلَ، لَا يَرْضَوْنَ مِنْكُمْ حَتَّى تَحَسِّنُوا قَبِيحَهُمْ وَتُصَدِّقُوا كَذِبَهُمْ، فَأَعْطُوهُمُ الْحَقَّ مَا رَضُوا بِهِ، فَإِذَا تَجَاوَزُوا فَمَنْ قُتِلَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ شَهِيدٌ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي سُلَالَةٍ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى، وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَاهُ لِقَوْلِهِ فِيهِ: يَمْلِكُونَ أَرْزَاقَكُمْ.
وَمِنْهَا حَدِيثُ أَنَسٍ الْمَشْهُورُ: «الْعُلَمَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ عَلَى عِبَادِ اللهِ مَا لَمْ يُخَالِطُوا السُّلْطَانَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ خَانُوا الرُّسُلَ فَاحْذَرُوهُمْ وَاعْتَزِلُوهُمْ» رَوَاهُ الْعُقَيْلِيُّ فِي الْمُصَنَّفِ، وَالْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ، وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي التَّارِيخِ، وَأَبُو نَعِيمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ وَغَيْرُهُمْ، وَنَازَعَ السُّيُوطِيُّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ فِي وَضْعِهِ فَقَالَ: إِنَّ لَهُ شَوَاهِدَ فَوْقَ الْأَرْبَعِينَ، فَيُحْكَمُ لَهُ عَلَى مُقْتَضَى صِنَاعَةِ الْحَدِيثِ بِالْحُسْنِ.
وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنْ أُنَاسًا مِنْ أُمَّتِي يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَقُولُونَ نَأْتِي الأمراءَ فَنُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَنَعْتَزِلُهُمْ بِدِينِنَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ، كَمَا لَا يُجْتَنَى مِنَ الْقَتَادِ إِلَّا الشَّوْكُ، كَذَلِكَ لَا يُجْتَنَى مَنْ قُرْبِهِمْ إِلَّا الْخَطَايَا قَالَ السُّيُوطِيُّ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَكَذَا ابْنُ عَسَاكِرَ. وَمِنْ حَدِيثِهِ عِنْدَ الدَّيْلَمِيِّ: «سَيَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عُلَمَاءُ يُرَغِّبُونَ النَّاسَ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَرْغَبُونَ، وَيُزَهِّدُونَ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَزْهَدُونَ، وَيَنْهَوْنَ عَنْ غِشْيَانِ الأمراءِ وَلَا يَنْتَهُونَ».
وَمِنْهُ أيضا عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ: «مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أَتَى أَبْوَابَ السُّلْطَانِ افْتَتَنَ».
وَمِنْهَا حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: «مَا مِنْ عَالَمٍ أَتَى صَاحِبَ سُلْطَانٍ طَوْعًا إِلَّا كَانَ شَرِيكَهُ فِي كُلِّ لَوْنٍ يُعَذَّبُ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ». أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ، وَالدَّيْلَمِيُّ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الثَّوَابِ، وَالْحَاكِمُ فِي التَّارِيخِ مِنْ حَدِيثِهِ أيضا: «إِذَا قَرَأَ الرَّجُلُ الْقُرْآنَ وَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، ثُمَّ أَتَى بَابَ السُّلْطَانِ تَمَلُّقًا إِلَيْهِ، وَطَمَعًا لِمَا فِي يَدِهِ خَاضَ بِقَدْرِ خُطَاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» وَأَخْرَجَهُ الدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِلَفْظٍ آخَرَ.
وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ أُخْرَى، أَوْرَدَهَا الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ فِي كِتَابٍ خَاصٍّ سَمَّاهُ (الْأَسَاطِينُ فِي عَدَمِ الْمَجِيءِ إِلَى السَّلَاطِينِ) وَالْآثَارُ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ لِظُهُورِ أُمَرَاءِ الْجَوْرِ فِي زَمَنِهِمْ، وَتَهَافُتِ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِمْ، مِنْهَا قَوْلُ حُذَيْفَةَ الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ: إِيَّاكُمْ وَمَوَاقِفَ الْفِتَنِ. قِيلَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: أَبْوَابُ الأمراءِ يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ عَلَى الْأَمِيرِ فَيُصَدِّقُهُ بِالْكَذِبِ، وَيَقُولُ مَا لَيْسَ فِيهِ: وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ لِسَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ: لَا تَغْشَ أَبْوَابَ السَّلَاطِينِ فَإِنَّكَ لَا تُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُمْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابُوا مِنْ دِينِكَ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ: مَا مِنْ شَيْءٍ أَبْغَضَ إِلَى اللهِ مِنْ عَالَمٍ يَزُورُ عَامِلًا، أَيْ مِنْ عُمَّالِ الْحُكُومَةِ وَقَالَ سَمْنُونُ الْعَابِدُ الشَّهِيرُ: مَا أَسْمَجَ بِالْعَالَمِ أَنْ يُؤْتَى إِلَى مَجْلِسِهِ فَلَا يُوجَدُ، فَيُسْأَلُ عَنْهُ، فَيُقَالُ عِنْدَ الْأَمِيرِ، وَكُنْتُ أَسْمَعُ أنه يُقَالُ: إِذَا رَأَيْتُمُ الْعَالِمَ يُحِبُّ الدُّنْيَا فَاتَّهِمُوهُ عَلَى دِينِكُمْ حَتَّى جَرَّبْتُ ذَلِكَ، مَا دَخَلْتُ قَطُّ عَلَى هَذَا السُّلْطَانِ إِلَّا وَحَاسَبْتُ نَفْسِي بَعْدَ الْخُرُوجِ، فَأَرَى عَلَيْهَا الدَّرْكَ مَعَ مَا أُوَاجِهُهُمْ بِهِ مِنَ الْغِلْظَةِ وَالْمُخَالَفَةِ لِهَوَاهُمْ. اهـ، وَقَدْ أَشَارَ بِقوله: وَكُنْتُ أَسْمَعُ إلخ إِلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: إِذَا رَأَيْتَ الْعَالِمَ يُخَالِطُ السُّلْطَانَ مُخَالَطَةً كَثِيرَةً فَاعْلَمْ أنه لِصٌّ رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ. أَوْ إِلَى قَوْلِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ لِيُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ: إِذَا رَأَيْتَ الْقَارِئَ يَلُوذُ بِالسُّلْطَانِ فَاعْلَمْ أنه لِصٌّ. وَإِذَا رَأَيْتَهُ يَلُوذُ بِالْأَغْنِيَاءِ فَاعْلَمْ أنه مُرَاءٍ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُخْدَعَ، فَيُقَالُ لَكَ: نَرُدُّ مَظْلَمَةً، نَدْفَعُ عَنْ مَظْلُومٍ، فَإِنَّ هَذِهِ خُدْعَةٌ إِبْلِيسُ اتَّخَذَهَا لِلْقُرَّاءِ سُلَّمًا.
أَقُولُ: يَعْنُونَ بِالْقُرَّاءِ عُلَمَاءَ الدِّينِ، يَعْنِي أَنَّ الشَّيْطَانَ يُلَبِّسُ عَلَى رِجَالِ الدِّينِ مَا يَلْبِسُونَ فَيَقُولُ لَهُمْ وَيَقُولُونَ: إِنَّنَا لَا نُرِيدُ بِغِشْيَانِ الأمراءِ وَالتَّرَدُّدِ عَلَيْهِمْ إِلَّا نَفْعَ النَّاسِ، وَدَفْعَ الْمَظَالِمِ عَنْهُمْ، وَهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُونَ الْمَالَ وَالْجَاهَ بِدِينِهِمْ، وَيَقِلُّ الصَّادِقُ فِيهِمْ. وَهَكَذَا أَضَاعُوا دِينَهُمْ فَنَبَذُوا كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا.
وَقَدْ نَظَمَ كَثِيرُونَ مِنْ نَاظِمِي الْحِكَمِ بَعْضَ هَذِهِ الْمَعَانِي. وَمِنْ أَحْسَنِ مَا نُظِمَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ:
قُلْ لِلْأَمِيرِ مَقَالَةً ** لَا تَرْكَنَنَّ إِلَى فَقِيهِ

إِنَّ الْفَقِيهَ إِذَا أَتَى ** أَبْوَابَكُمْ لَا خَيْرَ فِيهِ

قال تعالى: {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} أَيْ هُوَ ذَمِيمٌ قَبِيحٌ، لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ هَذَا الْعَرَضَ الْفَانِيَ بَدَلًا مِنَ النَّعِيمِ الْبَاقِي فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَا مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي تَحْصُلُ لِلْأُمَّةِ بِمُحَافَظَةِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْكِتَابِ، وَتَبْيِينِهِ لَهَا، وَإِرْشَادِهَا بِهِ إِلَى مَا يُهَذِّبُ أَخْلَاقَهَا، وَيُعْلِي آدَابَهَا، وَيَجْمَعُ كَلِمَتَهَا، وَيَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَطَامِعِ الْمُسْتَبِدِّينَ فِيهَا حَتَّى تَكُونَ أُمَّةً عَزِيزَةً قَوِيَّةً مُتَكَافِلَةً مُتَضَامِنَةً، أَمْرُهَا شُورَى بَيْنَ أَهْلِ الرَّأْيِ، وَأُولِي الأمر مِنْ أَفْرَادِهَا.
ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} رَوَى الشَّيْخَانِ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِبَوَّابِهِ: اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقُلْ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ مِنَّا فَرِحَ بِمَا أَتَى وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا لِنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكُمْ وَهَذِهِ! إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، سَأَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ، وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَخَرَجُوا قَدْ أَرَوْهُ أَنَّهُمْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ، وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ أيضا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا قَدِمَ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَحَلَفُوا، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَانَا عِنْدَ مَرْوَانَ فَقَالَ مَرْوَانُ: يَا رَافِعُ، فِي أَيِّ شَيْءٍ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا؟ قَالَ رَافِعٌ: أُنْزِلَتْ فِي نَاسٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا إِذَا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَذَرُوا، وَقَالُوا: مَا حَبَسَنَا عَنْكُمْ إِلَّا شُغْلٌ، فَلَوَدِدْنَا لَوْ كُنَّا مَعَكُمْ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ، وَكَأَنَّ مَرْوَانَ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَجَزِعَ رَافِعٌ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنْشُدُكَ اللهَ هَلْ تَعْلَمُ مَا أَقُولُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ يُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بأنه يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ مَعًا، قَالَ: وَحَكَى الْفَرَّاءُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْلِ الْيَهُودِ: نَحْنُ الْيَهُودُ، نَحْنُ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَالصَّلَاةِ، وَالطَّاعَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقِرُّونَ بِمُحَمَّدٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ نَحْوَ ذَلِكَ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَلَا مَانِعَ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي كُلِّ ذَلِكَ، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ. وَقَدْ أَخْرَجَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْنَاهُمْ أيضا.
وَقَدْ وَجَّهَهَا بَعْضُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْوَجْهِ الْخَاصِّ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِمَّا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ أنه قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، أُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابُ، فَحَكَمُوا بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، فَرِحُوا بأنهمْ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ، وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللهَ، وَيُصَلُّونَ، وَيُطِيعُونَ اللهَ، وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّهُمْ فَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ تَكْذِيبِ النَّبِيِّ، وَالْكُفْرِ بِهِ، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَنَحْنُ أَهْلُ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. وَهَذَا وَجْهٌ وَجِيهٌ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَبِمِثْلِ هَذَا الْعُمُومِ يُوَجَّهُ نُزُولُهَا فِي الْمُنَافِقِينَ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْكَلَامُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ لِتَحْذِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مِثْلِ فِعْلِهِمْ فِي سِيَاقِ الْحَضِّ عَلَى الِاسْتِمْسَاكِ بِعُرْوَةِ الْحَقِّ، وَحِفْظِهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، إِذْ أُخِذَ عَلَى أُولَئِكَ الْمِيثَاقُ، فَقَصَّرُوا فِيهِ، وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِالْكِتَابِ، وَتَبْيِينَهُ لِلنَّاسِ، وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، فَاسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ مِنَ اللهِ تعالى. بَعْدَ هَذَا بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَالًا آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ أُولَئِكَ الْغَابِرِينَ لِيُحَذِّرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ، لِأَنَّهُمْ عُرْضَةٌ لَهُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا مِنَ التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ لِلْكِتَابِ، وَيَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ شَرَفًا فِيهِ، وَفَضْلًا بأنهمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ، وَهَذَا فَرَحٌ بِالْبَاطِلِ، وَكَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بأنهمْ حُفَّاظُ الْكِتَابِ، وَمُفَسِّرُوهُ، وَعُلَمَاؤُهُ، وَمُبَيِّنُوهُ، وَالْمُقِيمُونَ لَهُ، وَهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا فَعَلُوا نَقِيضَهُ إِذْ حَوَّلُوهُ عَنِ الْهِدَايَةِ إِلَى مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَ الْحُكَّامِ، وَأَهْوَاءَ سَائِرِ النَّاسِ يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ حَمْدَهُمْ، بَيَّنَ اللهُ هَذِهِ الْحَالَ فِي أُسْلُوبٍ عَجِيبٍ، بَيَّنَ فِيهِ حُكْمًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْفَرِحِينَ الْمُحِبِّينَ لِلْمَحْمَدَةِ الْبَاطِلَةِ قَدِ اشْتَبَهَ أَمْرُهُمْ عَلَى النَّاسِ، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ، وَأَنْصَارُ دِينِهِ، وَعُلَمَاءُ كِتَابِهِ، وَأَنَّهُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ عَذَابِهِ، وَأَقْرَبُهُمْ مِنْ رِضْوَانِهِ، فَبَيَّنَ اللهُ كَذِبَ هَذَا الْحُسْبَانِ، وَنَهَى عَنْهُ، وَسَجَّلَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ.
أَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى عُمُومِهَا مُبَيِّنَةٌ لِشَيْءٍ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي اسْتَبْدَلُوهُ بِكِتَابِ اللهِ، وَكَوْنِهِ بِئْسَ الثَّمَنُ، وَهُوَ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا فَرَحُهُمْ بِمَا أَتَوْهُ مِنَ الْأَعْمَالِ فَرَحَ غُرُورٍ، وَخُيَلَاءَ، وَفَخْرٍ عَلَى أَنَّ مِنْهُ نَبْذَ كِتَابِ اللهِ بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، وَعَدَمِ تَبْيِينِهِ عَلَى وَجْهِهِ، إِمَّا بِتَحْرِيفِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ لِيُوَافِقَ أَهْوَاءَ الْحُكَّامِ، أَوْ أَهْوَاءَ النَّاسِ، وَإِمَّا بِالسُّكُوتِ عَنْهُ، وَالْأَخْذِ بِكَلَامِ الْعُلَمَاءِ السَّابِقِينَ تَقْلِيدًا بِغَيْرِ حُجَّةٍ إِلَّا ادِّعَاءَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِالْكِتَابِ، وَأَنَّهُمْ إِنْ خَالَفُوا بَعْضَ نُصُوصِهِ فَلابد أن يكون عِنْدَهُمْ دَلِيلٌ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ.
وَثَانِيهِمَا: حُبُّ الْمَدْحِ، وَالثَّنَاءِ بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَ الْحُكَّامِ، وَالنَّاسِ فِي الدِّينِ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بأنهمْ يُبَيِّنُونَ الْحَقَّ لِوَجْهِ اللهِ لَا تَأْخُذُهُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ، أَوْ غَيْرَ الْحَاكِمِ إِذَا احْتَاجَ إِلَى عَمَلٍ يُرْضِي بِهِ هَوَاهُ، وَشَهْوَتَهُ مِمَّا يَحْظَرُهُ عَلَيْهِ الدِّينُ فَلَجَأَ إِلَى الْعَالِمِ فَعَلَّمَهُ حِيَلَةً شَرْعِيَّةً يَسْلَمُ بِهَا مِنْ نَقْدِ النَّاقِدِينَ، وَذَمِّ الْمُتَدَيِّنِينَ، فَشُكَّ أنه يَحْمَدُ ذَلِكَ الْعَالِمَ وَيُطْرِيهِ بأنه الْعَالِمُ التَّقِيُّ الْمُحَقِّقُ، لَا مُكَافَأَةً لَهُ فَقَطْ بَلْ يَرَى مِنْ مَصْلَحَتِهِ أَنْ يَعْتَقِدَ النَّاسُ الْعِلْمَ وَالصَّلَاحَ فِي مُفْتِيهِ لِيَأْخُذُوا كَلَامَهُ بِالْقَبُولِ، وَقَدْ عَلِمْنَا مِنَ الثِّقَاتِ أَنَّ الْحُكَّامَ مُنْذُ كَانُوا يَتَوَاطَئُونَ مَعَ كِبَارِ شُيُوخِ الْعِلْمِ، وَشُيُوخِ الطَّرِيقِ الْمُحْتَرَمِينَ- عِنْدَ الْعَامَّةِ- عَلَى تَعْظِيمِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لِلْآخَرِ، فَرُؤَسَاءُ الْحُكَّامِ يُظْهِرُونَ لِلْعَامَّةِ احْتِرَامَ الْعُلَمَاءِ، وَالِاعْتِقَادَ بِوِلَايَةِ كِبَارِ شُيُوخِ أَهْلِ الطَّرِيقِ، فَيُقَبِّلُونَ أَيْدِيَهُمْ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَرُبَّمَا أَهْدَوْا إِلَيْهِمْ بَعْضَ الْهَدَايَا، وَالْمَشَايِخُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَهْلِ الطَّرِيقِ يُظْهِرُونَ لِلْعَامَّةِ احْتِرَامَ أُولَئِكَ الْحُكَّامِ، وَيَشْهَدُونَ بِقُوَّةِ دِينِهِمْ، وَشِدَّةِ غَيْرَتِهِمْ عَلَى الإسلام وَالْمُسْلِمِينَ، وَوُجُوبِ طَاعَتِهِمْ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ- يَقُولُونَ: وَإِنْ ظَلَمُوا وَجَارُوا؛ لِأَنَّهُمْ مُسَلَّطُونَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ!!! فَهَكَذَا كَانَ الظَّالِمُونَ الْمُسْتَبِدُّونَ، وَمَا زَالُوا يَسْتَفِيدُونَ مِنَ الدِّينَ بِمُسَاعَدَةِ رِجَالِهِ، وَيَتَّفِقُ الرُّؤَسَاءُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى إِضَاعَةِ حُقُوقِ الْأُمَّةِ وَإِذْلَالِهَا لَهُمْ لِيَتَمَتَّعُوا بِلَذَّةِ الرِّيَاسَةِ وَنَعِمِيهَا فَيَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا مِنْ ضُرُوبِ الْمَكَايِدِ السِّيَاسِيَّةِ، وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَالتَّأْوِيلَاتِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي تَرْفَعُ قَدْرَهُمْ، وَتُخْضِعُ الْعَامَّةَ لَهُمْ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا دَائِمًا بأنهمْ أَنْصَارُ الدِّينِ، وَحُمَاتُهُ، وَمُبَيِّنُو الشَّرْعِ وَدُعَاتُهُ، وَإِنْ نَبَذُوا كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَتَوَجَّهُوا إِلَى كُتُبِ أمثالهِمْ، وَأَشْبَاهِمْ، وَكَانَتِ الْأُمَّةُ لَا تَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ إِلَّا شَقَاءً بِهِمْ، حَتَّى سَبَقَتْهَا الْأُمَمُ كُلُّهَا بِسُوءِ سِيَاسَتِهِمْ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا الْكِتَابَ كَمَا أُمِرُوا بِالْبَيَانِ لَهُ، وَالْعَمَلِ بِهِ، وَإِلْزَامِ الْحُكَّامِ بِهَدْيِهِ لَمَا عَمَّ الْفِسْقُ، وَالْفُجُورُ، وَصَارَتِ الشُّعُوبُ الإسلاميَّةُ دُونَ سَائِرِ الشُّعُوبِ حَتَّى ذَهَبَتْ سُلْطَتُهَا، وَتَقَلَّصَ ظِلُّهَا عَنْ أَكْثَرِ الْمَمَالِكِ الَّتِي كَانَتْ خَاضِعَةً لَهَا، وَهِيَ تَتَوَقَّعُ نُزُولَ الْخَطَرِ بِالْبَاقِي وَهُوَ أَقَلُّهَا.
وَقَدْ كَانَ الأمراءُ وَالسَّلَاطِينُ فَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ كُبَرَاءِ الْحُكَّامِ هُمُ الَّذِينَ يَخْطُبُونَ وُدَّ الْعُلَمَاءِ، وَالْمُتَصَوِّفَةِ، وَيَسْتَمِيلُونَهُمْ إِلَيْهِمْ، وَهَؤُلَاءِ يَتَعَزَّزُونَ، فَيَسْتَجِيبُ لِلرُّقْيَةِ بَعْضُهُمْ، وَيَعْتَصِمُ بِالْإِبَاءِ، وَالتَّقْوَى آخَرُونَ؛ ثُمَّ انْعَكَسَتِ الْحَالُ، وَضَعُفَ سُلْطَانُ التَّقْوَى أَمَامَ سُلْطَانِ الْجَاهِ، وَالْمَالِ، فَصَارَ رِجَالُ الدِّينِ هُمُ الَّذِينَ يَتَهَافَتُونَ عَلَى أَبْوَابِ الأمراءِ وَالسَّلَاطِينِ، فَيُقَرَّبُ الْمُنَافِقُونَ، وَيُؤْذَى الْمُحِقُّونَ الْمُتَّقُونَ، وَتَكُونُ مَرَاتِبُ الْآخَرِينَ عَلَى نِسْبَةِ قُرْبِهِمْ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ.
هَذَا مَا أَحْبَبْتُ التَّذْكِيرَ بِهِ فِي تَبْيِينِ الْعِبْرَةِ بِالْآيَةِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَعَمَلِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِأَعْمَالِهِمْ وَإِنْ سَاءَتْ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِالشِّعْرِيَّاتِ الْكَاذِبَةِ الَّتِي رَاجَتْ سُوقُهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ بِالصُّحُفِ الْمُنْتَشِرَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْجَرَائِدِ، فَالْكَثِيرُ مِنْهَا قَدْ أَتْقَنَ هَذِهِ الْجَرِيمَةَ- مَدْحَ السَّلَاطِينِ وَالأمراءِ وَالرُّؤَسَاءِ بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا- حَتَّى اطْمَأَنُّوا بِاعْتِقَادِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ أَنَّ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٌ، وَحَتَّى بَطَلَتْ فَائِدَةُ الْمَحْمَدَةِ الصَّحِيحَةِ وَحُبُّ الثَّنَاءِ بِالْحَقِّ، وَالشُّكْرِ عَلَى الْعَمَلِ فَانْهَدَّ بِذَهَابِ هَذِهِ الْفَائِدَةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ التَّرْبِيَةِ، وَالْإِصْلَاحِ الْقَوْمِيِّ، وَالشَّخْصِيِّ، فَإِنَّ حُبَّ الْحَمْدِ غَرِيزَةٌ مِنْ أَقْوَى غَرَائِزِ الْبَشَرِ الَّتِي تَنْهَضُ بِالْهِمَمِ، وَتُحَفِّزُ الْعَزَائِمَ إِلَى الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ النَّافِعَةِ رَغْبَةً فِي اقْتِطَافِ ثِمَارِ الثَّنَاءِ عَلَيْهَا، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يُدْرِكُ هَذَا الثَّنَاءَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْعَامِلُونَ بِدُونِ أَنْ يُكَلِّفَ نَفْسَهُ عَنَاءَ الْعَمَلِ لِلْأُمَّةِ، وَنَفْعَ النَّاسِ بِكَذِبِ الْجَرَائِدِ فِي حَمْدِهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِالْبَاطِلِ قَعَدَتْ هِمَّتُهُ وَوَهَتْ عَزِيمَتُهُ، وَأَخْلَدَ إِلَى الرَّاحَةِ، أَوِ اشْتَغَلَ بِالْعَمَلِ لِلَذَّتِهِ فَقَطْ.